د. هبة رؤوف عزت، محاضرة بعنوان "مقاصد العمران"

افتتح معهد التفكر الإسلامي الفصل الأكاديمي الثاني لعام 2023-2024 بعقد محاضرة للدكتورة هبة رؤوف عزت بعنوان "مقاصد العمران"  وذلك في يوم الجمعة  16-شباط-2024 ، حيث ركزت في كلمتها على عدد من النقاط منها:

  • إذا أردنا أن نبدأ دراسة أي مفهوم معنوي فإن علينا أن نبدأ أولا بكتاب الله، لأن فهم الأنفس وفهم العالم لايمكن أن يتحقق إلا بالنظر في الوحي، ثم نتحول بعد ذلك إلى النظر في العالم نفسه. فإنه من الممكن أن ينظر الإنسان حوله ويلاحظ حقائق من دون مساعدة إلى الوحي، لكن عندها يكون نظره هذا بدون معيار وميزان.
  • نظر العلماء في القرآن وفي الصور والآيات المختلفة وحاولوا أن يقسموها إلى موضوعين؛ إحداهما، أن تأخذ القرآن من أوله إلى آخره وتنظر في تفسير المعنى وأسباب النزول، وهو ما يمكن أن نسميه الرحلة مع القرآن؛ وثانيهما، التفسير الموضوعي، وهو كيفية تناول القرآن الموضوعات المختلفة وعلاجها؛ مثل الأخلاق، والأحكام، والقصص التي تتحدث عن تاريخ الإنسان وصعود العمران وهبوطه، وغير ذلك. ولكن نستطيع أيضا أن نقرأ القرآن باعتباره نظاما، أو باعتبار أنه في ذاته له معمار بالبحث عن الإشارات التي ترسَل من خلال الآيات في الموضوع الذي يشغلنا. فعلى سبيل المثال، إننا عندما نجلس ونقرأ كتاب الله نقول إن هذه القراءة ستكون حول الزمان، فهذه القراءة ستقطع هذه الرحلة وهي تمسك بيدها مصباح الزمان؛ وقراءة أخرى تمسك بيدها مصباح الإنسان. فنحن ندخل إلى كتاب الله باحثين عن المعنى، نستقبله ونقرأه بما يفتحه الله علينا؛ نبحث في دروب هذه الآيات وندخل في أعماقها ونتتبع دلالاتها.
  • حين نقرأ الكتب التي تتحدث عن العمران، نرى أنها تعرّف العمارة باعتبارها الوجه المادي للتاريخ؛ أو هي العلاقات والأنظمة السياسية والموازين والتاريخ والخبرات والاختراعات وغيرها. لكن حين ننظر في كتاب الله ونبحث عن المعنى الذي يشغلنا دون تحديد كلمة لهذه المعنى، يلتفت نظرنا إلى كلمة "الملكوت"؛ إن هذه الكلمة ذُكرت في آيتين في كتاب الله؛ الآية الأولى تقول: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)؛ والسؤال هو، كيف رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض؟ مالذي رآه؟ هل نظر حوله لكي يرى الخالق؟ ما هي البصيرة التي تري إبراهيم ملكوت السموات والأرض؟ هل كُشِفَ عنه حجاب فرأى ما يدور في الكون وسير النجوم وغير ذلك. والآية الثانية تقول: (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) فإما أن يكون بمعناه الكلي؛ أي أن الله سبحانه وتعالى له القدرة على كل شيء، أو أن (ملكوت كل شيء) يعني أن كل شيء له ملكوت خاص به؛ والملكوت هنا بمعنى سُننِ ومنطقِ وجوهر الشيء، وأن هذا الجوهر يختلف عن ملكوت شيء آخر، وبالتالي هناك أنظمة مختلفة، وهناك نَظْم واحد كلي شامل. يعني أن هناك أنظمة مختلفة في هذا العالم مرئية وغير مرئية، مادية ومعنوية، وعلائقية؛ وأنها تنتظم في بعضها البعض ضمن هذا النظم الشامل الذي يسمى بـ"مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، ولأن الله واحد فالمنطق والمبادئ واحدة ولأجل ذلك تمكنت الأشياء في هذا الكون أن تسير ضمن نظام واحد لا يتصادم بعضه مع بعض؛ فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ).
  • هذه الملكوتات أو العوالم، بعضها في تواصل مباشر مع عالم البشر، كعالم الحيوان والنبات. هذه العوالم الموجودة حول عالم البشر هي مدركة لوجودنا وقوانينا، لكن نحن بشكل عام غير مدركين لها. فمثلا النملة في عهد سليمان التي صرخت تنادي قومها أن يدخلوا مساكنهم: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) فالنمل على علم بجيش سليمان وسلوكه، لكن الجيش غير مدرك لهم. أو عندما  نجلس على مائدة في أحد المطاعم في اسطنبول وتأتي قطة تأكل من طعامنا أو تجلس في أحضاننا هي تحسب هذا المكان عالمها ونحن الدخلاء. فهي مدركة لنا وهي تعرف أن قانون الناس في اسطنبول يستوجب عدم مساس الضرر بالحيوانات في الشارع وإلا كانت لتأخذ الطعام خلسة. وعالم البشر أيضا يسير ضمن قوانين معروفة، وكلما كانت هذه القوانين متوافقة مع قوانين الأخلاق كان الناس في ذلك الزمان أكثر تطورا وتقدما، لأن العمران الحقيقي لا يقاس بالأشياء المادية وإنما بما يساهم في استمرارية التعايش والسلم ضمن هذه الأشياء المادية.
  • ومقاصد العمران البشري هي تحقيق إنسانية الإنسان ليصل إلى المقصود من خلقه بشرط أن يعرف حدوده، وأن يجعل العمران يعينه على تحقيق عبوديته وإقامة العدل؛ وهي أيضا التساكن والعيش المشترك، ففي التصور الإسلامي محض التساكن ومشاركة المكان يترتب عليه حقوق قد تصل أحيانا إلى حدود القرابة. فيمكن أن نقول أن المؤمنين ذمة واحدة يسعى بذمته أدناهم، وإن فكرة الجسد الواحد في الحديث الشريف تؤكد على هذا المعنى، فالعمران في المنظور الإسلامي ليس الجانب المادي من الحضارة فقط بل ما يترتب أيضا على هذا الجانب من القوانين الأخلاقية التي تحمّل المسلم مسؤولية العلاقة الأخلاقية مع من حوله.