البيان التأسيسي

 

معهد الفِكر الإسلاميِّ

المدخل:

الإسلام هو دين ابن آدم الأصليُّ الفِطريُّ لابن آدم الذي يحمل حقيقةً أبديَّةً، وقد بدأ بسيِّدنا آدم، وتجدَّدَ بخاتَمِ النَّبيِّين محمَّدٍ ﷺ، وبلغ به خِتامَه وتَمامَه، واحتلَّ مَكانَتَه ومَوقِعَه المُتميِّز في تاريخ الإنسانيَّة.

فالإسلامُ - باعتباره نظامَ حياةٍ - حين يخاطِبُ وُجودَ الإنسان ويخاطب جميعَ الجوانب المُتعلِّقة بأعماله في الحياة؛ فإنَّه يعتني بجميع خصائصه الرُّوحيَّة والعقليَّة والمادِّيَّة والمعنويَّة، ولا يَعتَبِرُ أيَّ جانبٍ أقلَّ شأناً وأهمِّيَّةً من الجوانب الأُخرى. والفِكرُ الإسلاميُّ باعتباره التَّيار الأمَّ استطاع أنْ يؤلِّفَ بين الأفهام المُختَلِفة كالظَّاهر والباطِنِ، والتَّنزيه والتَّشبيه، والفيزيقيا والميتافيزيقيا؛ على مبدأ التوحيد، ولم ينجحْ في تقديم تَصَوُّرٍ للحياة فحسْب، بل قدَّم كذلك عرضاً جديداً يلعبُ دور المؤسِّس بالمعنى التَّاريخيِّ في العالَمِ. و"أصولُ الدِّين" التي تُشكِّلُ أُسُسَ الدِّين القائمةِ على القرآن والسُّنَّة، و"أصولُ الفقه" التي تَجعلُ تَصوُّر الحياة الذي يحمله هذا العرضُ في نمط قَريبٍ للأفهام، والبُنى النَّظريَّةُ والعمليَّةُ المُؤسَّسَةُ على هذه "الأصول"، واجتماعُها جميعاً في هذا العَرضِ؛ حَوَّل دار الإسلام إلى مَركِزٍ تاريخيٍّ عالميٍّ في جميع الميادين على مدارِ ألفِ عامٍ أو يزيد، وجعل المُسلِمين في موقع الشَّهادة على العالمينَ، وخيرَ أمَّةٍ أُخرِجت للنَّاس، وحوَّلت التَّصوُّراتِ العالميَّة المُتَشكِّلَة على أساس تَّصوُّر الإسلام للحياة إلى أفكارٍ حاكمةٍ مُقَرِّرَةٍ، واستطاعت هذه الأفكار الحاكمة والبُنى العمليَّةُ والاجتماعيَّةُ والمُؤسَّساتيَّة المُواكِبَةُ لهذه الأفكار؛ حِمايَة تَميُّزِها النَّموذجيِّ بصورةٍ ديناميكيَّةٍ حتَّى القرن الثَّامن عشر.

ورَغمَ هذا الدَّور التَّاريخيِّ فإنَّ الفِكر الإسلاميَّ والحضارة الإسلاميَّة التي يَنتَسِبُ إليها ما يُقارِبُ مِليارَي إنسانٍ؛ يَعيشان اليوم إحدى أصعب فتراتِهِما التَّاريخيَّة. فالعالَمُ الإسلاميُّ يعيش اضْطِراباتٍ وأزماتٍ عميقةً جدّاً في جميع مجالاتِ الحياة على وجه التَّقريب، ويعيشُ في صراعٍ معها، وفي مُقدِّمتها المَجالاتُ السِّياسيَّة والعلميَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفِكريَّة. وهذه الحال في الحقيقة ليست الأزمة الأولى التي تعيشها حضارتُنا الإسلاميَّة، فهناك أزمَتانِ عاشَتهما سابقاً: أولاهما تَجرِبةُ المُسلِمين في مواجهة الحضاراتِ والثَّقافاتِ في دُوَلِ الجوار أثناء الفتوحاتِ الإسلاميَّة الأولى، ونشأت الثَّانية مع الهجماتِ الباطنيَّة والحروب الصَّليبيَّة والغزو المغوليِّ. واستطاعَ المُسلِمون الَّذِينَ يتحرَّكون حسب ديناميات الإسلام، التَّغلُّبَ على هاتَين الأزمَتَينِ بجهودِهُم الحثيثةُ في التَّجديد القائم على الأصول.

فالأزمَةُ الأولى مَكَّنَت المُسلِمين من تطوير مهاراتٍ لتعريفِ العروض (والمشاريع) الخاصَّة بهم، عبر لُغَةٍ مُشتَركةٍ مع أحواض الثَّقافاتِ والحضاراتِ المُجاوِرَة، ونقلِ مَراكِزِ تأسيس تاريخ البشريَّةِ من روما والقُسطَنطينيَّةِ والإسكندريَّة وجنديسابور؛ إلى البَصرةِ والكوفةِ وبغدادَ ونيسابورَ وبُخارى وسَمرقندَ.

والأزمة الثَّانية التي يطغى عليها الجانب المَعرِفيُّ بشكلٍ لا يَقِلُّ عن الجانب السِّياسيِّ؛ مَهَّدَت الطَّريق أمام نشأةِ أفهامٍ جديدةٍ كانت وسيلةً لتحوُّلاتٍ مَنهَجيَّةٍ، وولادةِ نظريَّاتٍ سياسيَّةٍ تَكامُليَّةٍ جديدةٍ، وأتاحت الفُرصَةَ أمام حدوث قفزةٍ كبيرةٍ ثانيةٍ في الحضارة الإسلاميَّة، نتيجةَ تَلاحُمِ بلادِ الهِندِ والسِّندِ والرُّوملي وخُراسان وتركستان وبلاد ما وراء النَّهر، وفي هذه الأوقاتِ الصَّعبة، وُلِد المُسلِمون من الرَّمادِ من جديدٍ، وحقَّقوا اكتشافاتٍ كبيرةً في العلوم والحضاراتِ، ووصلوا إلى شبه الجزيرة الإيبيريَّة، وبنَوا حضارةَ الأَندَلُسِ في الغرب، وتَوسَّعوا حتَّى وَصلوا إلى بلاد ما وراء النَّهر في الشرق، وفَتَحوا أبوابَ الأناضول أمامَ الإسلام، ووُفِّقوا في بناءِ إمبراطوريَّةٍ عظيمةٍ وقويَّةٍ في كلِّ المَجالاتِ كالإمبراطوريَّة العُثمانيَّة.

***

كما نشأت أزمةٌ ثالثةٌ كبيرةٌ تُوجِّهُ جميعَ عمليَّاتِ البحث منذ القرن الثَّامن عشر، وهي الأزمة التي ظهرت تحت تأثير أفهامٍ جديدةٍ في ميادين المَعرِفَةِ والفِكرِ والأخلاق التي نشأت في الغرب. فهذه الأزمة الجديدة التي ما تَزالُ تُحافِظ على قوَّة تأثيرها؛ أحدَثَت آثاراً مأساويَّةً تَصعُبُ مُقارَنتها بآثارِ سابقاتِها، ولعلَّ أهمَّ جوانب هذه الأزمة الجديدة هو أنَّ الثَّوراتِ السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي رافقت التَّحوُّلاتِ المَنهجيَّة في نظرَتِنا إلى الطَّبيعةِ والكَونِ؛ حَمَلَت تاريخَ البشريَّة إلى عتبةِ صفحةٍ جديدةٍ لا يمكن العودة عنها من نواحٍ عديدةٍ، ولا شكَّ أنَّ التَّحوُّلات التي حدثت في هذه الفترة كانت أكبر بكثيرٍ من التَّحوُّلاتِ التي حصلت في تاريخ البَشريَّة المَكتوبِ على مدى خمسةِ آلاف عامٍ، وطالت هذه التَّغيُّراتُ المُسلِمين فأخرجَتهم تدريجياً عن كونهم مَوضوعَ التَّاريخ، ولم يَجِدوا في أنفسهم القوَّةَ العلميَّة والفكريَّة التي تُمكِّنُهم من مواجهة التَّحدِّياتِ

وثمَّةَ أسبابٌ عديدةٌ وراء عجز المُجتَمَعاتِ غير الغربيَّة عامَّةً، والمُجتَمَعاتِ المُسلِمة خاصَّةً، عن إنتاج المَعرِفَةِ التي تُمكِّنُها من مُواجَهة التَّحدِّياتِ، ولعلَّ أهمَّ هذه الأسباب إلى جانب الأسباب السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والاجتماعيَّة؛ هو الضَّعفُ الشَّديد الذي تَعرَّضَت له هذه المُجتَمَعاتُ في إدراك التَّحوُّلات المَنهَجيَّةِ التي تلعب دور الوسيط في إنتاج العلمِ والمَعرِفَةِ، وإهمالِها لهذه التَّحوُّلاتِ. ومن الجدير بالذِّكرِ أنَّ التَّغيُّرَ في نظرتنا للكون يأتي في قاعدة التَّحوُّلاتِ التي حصلت في العالَمِ الغربيِّ منذ القرن السَّابع عشر، ووضعت تحت تأثيرها بقيَّةَ العالَمِ، وأنَّ هذه التَّحوُّلاتِ المَنهجيَّة التي نرى أننا مكلفين بالتكيف معها، والتي نَحْسِبُ أنَّ إرثَنا التَّاريخيَّ سيكونُ في خطرٍ إنْ لم نَحمِل أنفُسَنا على هذا التَّكيُّف معها؛ هي التي تقفُ وراء إبراز التَّراكماتِ التِّقَنيَّة والعلميَّة والمَعرفيَّة الكبيرة التي نَتَوارثُها اليوم. فهذه المَنهَجيَّة لا تُعرِّفُ المعلومة بأنها "اكتشافُ ما هو موجودٌ" فحسب، بل هي "القوَّةُ" بحدِّ ذاتِها.

إنَّ التَّطوُّراتِ التي حصلت في القرن السَّابع عشر والقرون التي تَلَتهُ، استبدَلَتِ المَنهَجَ التَّقليديَّ للجهود المبذولة في الفَهمِ والذي ينطَلِقُ من الأعلى إلى الأسفل، أو من الله إلى الإنسان، أو من الوحي إلى الحياة؛ بمنهجٍ جديدٍ ينطَلِقُ من الأسفل إلى الأعلى، ويهدِفُ إلى استلام الطَّبيعة والكون، وهذا الوضعُ الجديد فتحَ الطَّريق إلى تكريس هَيمَنَةِ طُرُقِ المَعرِفة التَّقليديَّة على مَجالاتِ المعرفة المُختَلِفَة كالغَيبيَّاتِ والميتافيزيقيا والإبستيمولوجيا وعلم النَّفس وفلسفة الطَّبيعة، واستمرَّت في شَغلِ المساحة التي كان يُنْتَظَرُ مَلؤُها بالمَنهَجِ الذي يُؤَمِّنُ إنتاجَ المَعارِف والعلوم الجديدة التي تأبى القيود والحدود، وتحوَّلَ هذا النَّمط من المعرفة والفهمِ تَدريجيّاً إلى "مجالٍ للقيمةِ" يَستَمدُّ قوَّتَه من التَّاريخ، وتَبَوَّأ مكانَهُ المُحَصَّنَ. وفي ظلِّ الجهود التي بذلها مُنتِجو المعلوماتِ الجديدة للحفاظ على انتسابهم إلى مجال "القيمة" هذا، نشأ تناقضٌ يصعُبُ التَّعامُلُ مَعَهُ، حيث نشأ تقنيون يُحاوِلون الحفاظ على الوجود التَّاريخيِّ، ويسعون لتحديث "علم المهاراتِ" وتفعيلِهِ من أجل التكيف مع التَّطوُّراتِ التّقنيَّةِ الإلزاميَّة، لكنَّ أذهانَهم مُغلَقةٌ على المَنهَجِ الذي يولِّد هذه التَّطوُّراتِ، ويُؤَمِّنُ إنتاجَها من جديدٍ. وقد ظهر هذا العمل التقني بادئ ذي بَدءٍ في مَجالِ العلوم التَّطبيقيَّة، ثمَّ ما لبثَ أن انتقل إلى بقيَّةِ فروع علوم الطَّبيعة، والعلوم الاجتماعيَّة، بل كذلك إلى العلوم الإسلاميَّة.

إنَّ النَّتيجة التي ينبغي استخلاصُها من هذا التَّقييم هي: أنَّ الدِّراساتِ المُتعلِّقَة بالأصول والطَّرائق في جميع المجالات على اختلافها، ينبغي أنْ تصفي حساباتها أوَّلاً مع التَّحوَّلات المَنهجيَّةِ التي تُوجِّه نظرتَنا إلى الكون أو الطَّبيعة، ولا ينبغي بالتَّأكيد أنْ يغيبَ عن الأذهان أنَّ تبليغَ رسالة الإسلامِ إلى البشريَّة كافَّةٍ بشكلٍ صحيحٍ مؤثِّرٍ يمرُّ من طريق إنتاج الفِكر و"الكلام" على أرضيَّةٍ مُشتَركةٍ مع بقيَّة البشر. وهذا الفِكر الذي يُؤمِّن الأرضيَّةَ الشَّرعيَّةَ للنُّصوص والأحكام التي تُشكِّلُ المِحوَرَ الأساسيَّ لأصول الفقه؛ يجب أنْ يُحقِّقَ كافَّة أنواع التَّحوُّلاتِ المَنهجيَّة في نظرتنا إلى الكون. وهذا الوضع يُحتِّم الرُّجوعَ من جديدٍ وبشكلٍ حيويٍّ إلى مَوضوعِ أبحاثِ المَعرفة والطَّريقة التي كانت وما تَزالُ تَلقى اهتماماً بالِغاً من قِبَلِ علماءِ الأصول والكلام.

ويبدو أنَّ المأزق الذي حصل في كلا المَجالَينِ، تسبَّب في تَدهوُرِ إنتاجِ المَعارف في العالَمِ الإسلاميِّ، وتجريد العلماءِ تدريجيّاً وحرمانهم من دورهم في حلِّ المَشاكل. وهذا الوضعُ يجعلُ إعادةَ النَّظر والمُحاسَبَة العاجلة العميقة أمراً لا مفرَّ منه، وإنَّنا - من أجل هذه المُحاسَبَةِ - نحتاجُ اليومَ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى إلى علماءَ يمتلكونَ قوَّةَ التَّفكُّرِ والتَّخيُّلِ والمُحاكَمَةِ، وبعبارةٍ أُخرى، نحتاج إلى علماءَ يَجمعون بين العقل والوجدان، والعلمِ والمَعرفة بجميع مَصادِرها والأخلاق، ويَرَونَ ذلك مَسؤوليَّةً، ويمتلكون القُدرة على تحويل ذلك إلى عملٍ يُفيدُ المُجتَمَع، ويكونون بذلك قُدوةً حسنةً للبشر، يَسوقُهم إلى التَّفكير الصَّحيح، ويفتَحونَ بأفكارهم آفاقاً جديدةً أمام المُجتَمَع، وبالتَّالي، هذه دعوةٌ لجميع المُسلِمين فرداً فرداً، وفي مُقدِّمَتهم العلماء، إلى استعادة صِفَةِ "الشَّهادة على الإنسانيَّة" التي تُشكِّلُ العُنصرَ الأصليَّ الذي يجعلُهم أُمَّةً. 

***

والأمرُ المثيرُ للانتباه هنا؛ هو ظهورُ المُؤسَّساتِ التَّعليميَّة بأعدادٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى في العالَمِ الإسلاميِّ في العصر الحديث، وارتفاعُ تحصيلِ "العلوم الإسلاميَّة"، بشكلٍ لم يسبق له مثيلٌ في التَّاريخ، ونشوء مئاتِ الآلافِ من طلبةِ "العلوم الإسلاميَّة"، وذلك بُغيَةَ التَّغلُّبِ على هذه المشاكل، وتَوَفُّرِ الوصول إلى مُختَلَفِ المعلومات بفضلِ انتشار الإنترنت وتَوَفُّرِ الإمكانات الرَّقميَّة، حتَّى أصبحت في بيوت الجميع، بل في جيوبهم أيضاً، ... لكنَّ جميع هذه المُكتَسَباتِ لم تكفِ - مع الأسف - لإنقاذ العالَمِ الإسلاميِّ من هذه الأزمات والدَّوَّاماتِ العَميقِةِ؛ لأنَّ وَفرَةَ هذه الإمكانات، وسُهولَةَ اقتناءِ المَعلومات، تحوَّلَت إلى فوضى المعلوماتِ والإدراك، وجَلَبَت معها مَشاكِلَ أعمقَ، وخلَقَت الفوضى والتَّشويش في مجالِ الفِكر الإسلاميِّ بكلِّ ما في الكلمة من معنى، ولم يسلَم بلدنا تركيا من هذه الأزمات العميقة التي تَعصِفُ بالعالَمِ الإسلاميِّ، فلم يستطع أنْ يُقدِّمَ مُقتَرحاً أو حلّاً بالمَعنى العلميِّ والثَّقافيِّ، ولم يستطع أنْ يُحقِّقَ قفزاتٍ نوعيَّةٍ في مجال العلمِ والمعرفةِ والفِكرِ والثَّقافةِ كما في بقيَّة المجالاتِ، رغمَ أنَّه يُشكِّلُ أملَ العالَمِ الإسلاميِّ نتيجةَ الانفتاح السِّياسيِّ والاقتصاديِّ الذي شَهِدَه في الأعوام الماضية، ورغمَ أنَّه البلد الوحيد الذي ينعَمُ بالسَّلام في مُحيطِ النَّار المُندَلِعَة في البلدان الإسلاميَّة المُجاوِرَةِ.

لقد ارتفع عددُ كلِّيَّاتِ الإلهيَّاتِ في بلدنا حتَّى تَجاوَزَ المئة خلال الأعوام الخَمسةَ عشر الماضية، وأصبحت "العُلوم الإسلاميَّة" في مُتَناوَلِ الشَّباب الَّذِينَ بلغ عددُهم عشرات الآلاف، بِفَضلِ كلِّيَّاتِ الإلهيَّاتِ وتمكينِ مَعاهِدِ الإلهيَّاتِ العليا لإتمامِ درجاتِ الإجازة الجامعيَّة، وكَثُرَت المُؤسَّساتُ التَّعليميَّة الدِّينيَّة المَدنيَّةُ نتيجةَ انتشارِ الحُرِّيَّاتِ، لكنْ لوحِظَ - مع الأسف - مَزيدٌ من تَضَيُّقِ الأفقِ الإسلاميِّ أمامَ هذه الزِّيادَةِ الكَمِّيَّةِ، ورغمَ كلِّ الإمكانيَّاتِ لا يُمكِنُنا - مع الأسف - أنْ نَزعُمَ بأنَّه تمَّ توطيدُ فهمٍ تَعليميٍّ يَبني علاقةً سليمةً مع تَراكماتِ العلوم والحضارة التي تَوفَّرت في بلدنا خلال القرون الخمسةَ عشر الماضيةِ، ويُحاوِلُ أنْ يَنظُرَ إلى آياتِ الكتابِ المَتلُوِّ (القرآن) وآياتِ الكتابِ المفتوح (الكون) على أنَّهما تَعبيرٌ عن الحقائق ذاتِها، ويُقدِّمُ العلومَ الدِّينيَّةَ جنباً إلى جنبٍ مع العلوم الاجتماعيَّة وعلوم الفيزياءِ والكيمياءِ والرِّياضيَّاتِ، ويُقدِّمُ دروسَ الإلهيَّاتِ مع دروس الحكمة والفلسفة، وحافَظَ التَّصنيفُ الخاطِئُ الذي تَوارَثناهُ من التَّاريخ بين العلوم الدِّينيَّة وغير الدِّينيَّة؛ على وُجودِه في الجامعات، ولم يتمَّ دَمجُ فرع الإلهيَّاتِ ببقيَّةِ الفروع في الجامعات، ولم تَتَكامَل الفُروعُ التي تُنتِجُ العلومَ الطَّبيعيَّة والعلومَ الاجتماعيَّة، مع فرع الإلهيَّاتِ الذي يَمنَحُ الحياةَ للحضارةِ.  

***

لم يخلُ العالَمُ الإسلاميُّ على تَعاقُبِ الأعوام والعصور من سُؤالَينِ، كانا وما يزالانِ مَحَطَّ اختلافِ علماء المُسلِمين. السُّؤال الأوَّلُ هو: ما الذي يجب فعلُه أمام الشُّروط والحالات والأحداث الجديدة التي ظهرت بعد فترة نزول الوحي؟ والسُّؤال الثَّاني هو: كيفَ نُقيِّمُ اليوم ماضي الإسلام وتقليده والاجتهادات والفتاوى التي ظهرت في التَّاريخ، وكيف نقرأ اليوم مَراجِعَ العِلمِ والفِكرِ القَيِّمة التي تملأ مَكتَباتِنا الضَّخمة؟ وأمام هذَينِ السُّؤالَينِ ظهرت باستمرارٍ دَعَواتٌ للتَّجديد والإحياء والإصلاح والإنشاء، لكنَّ هذه الدَّعَوات ذات النِّيَّاتِ الحَسَنَةِ أصبحت مع مرور الزَّمن مَصدَراً للاختلاف، وواضحٌ أنَّ الإسلام غنيٌّ عن هذه المفاهيم بِرُمَّتِها، فالإسلامُ لا يَبلى حتَّى يَحتاجَ للتَّجديد، ولا يَموتُ حتَّى يَفتَقِرَ للإحياء، ولا يَفسَدُ حتَّى يتمَّ إصلاحُهُ، وكيف لنا أنْ نُعيدَ إنشاءَ الإسلامِ الذي جاء يُرشِدنا إلى طريق بناء الحياةِ والأخلاق، والدُّنيا والآخرة؟! لكنَّ حاجة الفِكرِ إلى التَّجديد، وحاجة العلوم إلى الإحياءِ، وحاجة المَنهَجيَّاتِ والطُّرُقِ إلى الإصلاح، وحاجة الأخلاق إلى إعادة البناء، أمرٌ غنيٌّ عن البَيانِ. والمهمُّ هنا هو عدم الانحراف عن الاستقامة، وعدمُ الزَّيغِ عن ثوابت الإسلام.

والحقيقة التي لا مِراء فيها أنَّ طبيعةَ الدِّين وطبيعةَ النَّصِّ وطبيعة اللُّغَةِ وطبيعةَ الإنسان؛ تجعلُ الاختلافَ في الفهم على نطاقٍ مُعيَّنٍ أمراً لازماً لا مفرَّ منه، لكنَّ التَّصوُّراتِ والخطاباتِ الدِّينيَّة الخاطئة التي تُحيط اليوم بالعالَمِ الإسلاميِّ تَحمِلُ معها أفهاماً أنانيَّةَ المَركِزِ تَحتَكِرُ الحقَّ لنفسها، وتَضرِبُ بِعُرضِ الحائط التَّأويلاتِ والتَّفسيراتِ التي تحتوي الأمَّة الإسلاميَّة وتتَّخِذُ العيشَ بأُخُوَّةٍ مَبدَأً لها.

إنَّ القُدراتِ البشريَّة، وفِطرتَنا، ومَصادِرَ مَعلوماتنا ومعارِفِنا، واختلافاتِنا الثَّقافيَّة، وأنماطَ تفكيرنا؛ تُمثِّلُ - بدون شكٍ - الأسبابَ الرَّئيسيَّة وراء التَّعبيرِ عن أفكارنا وقناعاتنا بشكلٍ مُختَلِفٍ في القضايا المُختَلِفَة. والتَّفكيرُ بأنَّ جميع أفراد المُجتَمَع على وجه التَّقريب على مِنوالٍ واحدٍ، وتصميمَهُم في شَخصِيَّةٍ واحدةٍ أو بُنيَةٍ فكريَّةٍ واحدةٍ؛ يُعادِلُ قَبلَ كلِّ شيءٍ مُمارَسَة القَمع على حرِّيَّةِ إرادة هؤلاء الأفراد فرداً فرداً. والحقيقة أنَّه لا حَرَجَ على الإطلاق في حُرِّيَّةِ الفكرِ، والاختلافِ في إعطاء القرارات، والاختلافِ في فهمِ وتفسيرِ الوقائع والأحداث المُتَعلِّقَة بالتَّوَجُّهاتِ المُجتَمَعيَّةِ أو الوحي أو العالَمِ المادِّيِّ. ولا حرجَ على الإطلاق – باختصارٍ - من أنْ يُجري الإنسانُ تقييماً خاصّاً به لهذه الوقائع والأحداث، وحسبُ المُؤمِنِ أنْ يَجِدَ في نفسه الكفاءَةَ والعزيمة والقُدرَةَ على الالتزام بالأصول الصَّحيحة والطُّرُقِ السَّليمة والأهدافِ الصَّحيحة في أفكارِه وأعمالِه وخياراتِه وميولِه.

والاختلاف الذي نُحَمِّلُه اليومَ مَعانيَ أكثرَ سلبيَّةً من ذي قبلٍ يُعبِّرُ في الأساس عن تَنوُّعِ آراء المُسلِمين، ويُعتَبَرُ ثروةً وثراءً ووسيلةً للرَّحمة والحركيَّة الفكريَّة والعلميَّة، فتَتَنوَّعُ سُبُلُ حلِّ مَشاكِلِ الأمَّة الإسلاميَّة، وتتعارف العقول والخبرات وتتلاقَحُ، ويَستَلهِمُ بعضُها من بعضٍ. لكنَّ الاختلافَ الذي لا يرتضيه العقلُ السَّليم ولا يتماشى مع ثوابت الإسلام ويقودُ إلى شَرذَمَةِ الأُمَّةِ وتَنافُرِها؛ يُسمَّى "خلافاً ونِزاعاً، ويُفضي إلى المآزق. وتَطَوُّرُ الخلافِ إلى الفُروقاتِ الحادَّةِ هو بشيرٌ للمَشهَدِ المُؤلِمِ الذي نُسمِّيه "التَّفرِقَة". ولا يكتفي هذا الوضع بإنتاج النَّاسِ المُتَنافِرينَ المُغتَربينَ عن بعضهم من النَّاحِيَتَينِ الذِّهنيَّة والعاطفيَّة، بل يُمهِّدُ الطَّريق للفتنةِ أيضاً، ويُهدِّدُ وَحدَةَ المُجتَمَع. بالمُقابِلِ؛ يَعتَبِرُ التَّقليدُ الإسلاميُّ الاختلافاتِ والمسائلَ الاختلافيَّةِ في مُستوى المَعقولِ؛ نقاطَ انطلاقٍ قويَّةً للبَحثِ عن الحقيقة، ولا يَرى بأساً في ذلك، ويَكفي في ذلك ألَّا تَغيبَ المبادئ العليا للدِّينِ الحنيف عن أذهانِ المُسلِمين الَّذِينَ يُشكِّلونَ أهدافهم وتَوجُّهاتِهم تَبَعاً لمقاصد الإسلام!.

إنَّه ما من شكٍّ أنَّ الوَحدَةَ لا تعني أنْ يَملِكَ جميع المُسلِمين عالَمَاً فِكرِياً واحداً، كأنَّما خرجوا من قالَبٍ واحدٍ، بل تَعني بناءَ مُجتَمعٍ مُنسَجِمٍ من اجتماعِ المُسلِمين الَّذِينَ يُشكِّلُ كلُّ واحدٍ منهم بِتَمَيُّزِهِ الخاصِّ عالَمَاً مُختَلِفاً عن غيره، وتحقيق التَّرابُطِ بين المُؤمنين الَّذِينَ يَحمِلونَ شعور الأُمَّة، دون أنْ يَفقِدوا حرِّيَّتهم. والاختلاف، بالتَّالي، لا يُشكِّلُ عقبةً أمام الوَحدة، ولهذا السَّبب كانت الحضارة الإسلاميَّة، على مرِّ العُصور، مَهدَ المذاهب والمَشارِبِ المُختَلِفَة، فالتَّفسيراتُ والأفكارُ والآراءُ الدِّينيَّة ستُبدي اليوم - كما في الماضي - اختلافاتٍ تُمَثِّلُ ثَراءَ حضارتنا، وستتجلى فيها الحرِّيَّةُ التي يمنحها الإسلام لأفراد النَّاس في مجالِ العلم والمعرفةِ والفكرِ.

إنْ كانت الآراء المُختَلِفَة التي ظهرت باعتبارها فروعاً خَصبَةً في التَّكامُلِ الدَّاخليِّ للتَّقليد الإسلاميِّ، قد اكتسبت قيمةً بصِفَتِها أجزاءً لا تَتَجزَّأُ لعضوٍ واحدٍ قويٍّ مُتكامِلٍ، وأجزاءً يُغذِّي بعضُها بعضاً، ويحمي بعضُها بعضاً، اعتماداً على التَّفسيراتِ والطَّرائِقِ ووجهاتِ النَّظر المُختَلِفَة في جُغرافيَّاتِ العالَمِ الإسلامي المُختَلِفَة؛ فإنَّ الفضل الأكبر في ذلك يعودُ إلى "الأصول"، فكلُّ فرعٍ من فروع العلم أَهدى إلينا أُصولَه الخاصَّة به، فعلمُ التَّفسيرِ أكسبَ تاريخنا العلميَّ والثَّقافيَّ أصولَ التَّفسير وعلوم القرآن، وعلم الحديثِ حمل لنا مُصطَلَح الحديث وأصول الحديث، وعلم الفقه قام على أصول الفقه، حتَّى بِتنا نقبل بأنَّ هذه العلوم لا مَعنى لها بدونِ وجودِ المَنهَجيَّةِ والأصول.

***

إنَّ "أصولَ الدِّين" التي تُعبِّرُ عن الأصولِ التي تحمل في بُنيَتِها النِّقاشاتِ الفَلسفيَّة التي ظهرت في العصور الأولى، وتُحدِّدُ جذورَ أفهامِ الإسلام في الوجود والمَعرِفَةِ والقيمةِ، و"أصولَ الفقه" التي تُحدِّد قواعدَ الاستنباطِ والاجتهادِ، هما العِلْمانِ الأكثرَ أصالةً بأُسُسِهِما النَّظريَّةِ ومَبادِئِهما المَنهَجيَّةِ بين العلوم الأصيلَةِ التي أَسَّسَتها حضارتُنا الإسلاميَّة، فهذانِ العِلْمانِ لم يقتصرا على تَناوُلِ العلوم النَّقليَّة كالتَّفسير والحديث والفقه، بل تَناوَلا كذلك العلومَ العقليَّة، فعلوم الأصولِ عبارةٌ عن فرعٍ عِلميٍّ يَحُدُّ من النِّقاشات الدِّينيَّة غير الضَّروريَّة ويُؤمِّنُ الوَحدةَ؛ لأنَّه يُنادي بطبيعيَّةِ الاختلاف، ولهذا السَّبب يَحولُ امتلاكُ الأصول الصَّحيحة دون التَّشدُّدِ والتَّطرُّفِ باسم الدِّينِ، ويَحولُ دونَ فسادِ الدِّين باسم العقلانيَّة والحداثة.

وإلى جانب الفُروقاتِ المَنهجيَّة المذكورة أعلاه، فإنَّ السَّبب في فقداننا اليوم لنظام الأدلَّةِ الإسلاميِّ والتَّسلسُلِ الهَرَمِيِّ للأدلَّة، ونظامِ القَيَمِ والتَّسلسُلِ الهَرَمِيِّ للقِيَمِ، وفقهِ الأولويَّاتِ، والعلاقة بين الأدلَّة النَّقليَّة والأدلَّة العقليَّة؛ يَعودُ إلى فقداننا لأصول فهم الدِّين فهماً صحيحاً، ورَغمَ أنَّ مَصادرَ المعرفة والعمل الأساسية للإسلام بيِّنةٌ واضحةٌ، والقرآن الكريم الذي لم يتغيَّر فيه حرفٌ واحدٌ والجهود العلميَّة العظيمة التي أنجَزَتِ التَّمييزَ بين الصَّحيح والسَّقيم من السُّنَّة النَّبويَّة مَوفورةٌ لدينا؛ فإنَّ وضعَ مَصادِرِ المَعرِفَة هذه في مُواجَهَةِ بعضِها، وتصنيفِ الإسلام إلى إسلامِ القرآن وإسلامِ السُّنَّةِ وإسلامِ الحديثِ، ومُحاوَلَةُ التَّفريق بين الله ورسوله بعد خمسة عشر قرناً من الزَّمان؛ كلُّ ذلك مُؤشِّرٌ واضحٌ على مِقدارِ فُقدانِنا الكبير للأصول.

وإعادة النَّظر في عقيدة "آمنتُ بالله" التي تُوَحِّدُنا، ومُناقَشَةُ أُسُسِ الإيمان والعقيدة، وهُجران الأُسُسِ الكثيرةِ التي هي من العقائدِ، وتحويل العناصرِ الكثيرة التي ليست من العقائد إلى ثوابتِ الدِّين بعد خمسة عشر قرناً من الزَّمانِ؛ ينجُمُ من عدَمِ تطويرِ أُصولِ الدِّين التي نشأت في مُواجَهَةِ التَّحدِّياتِ في العهود الأولى، وعدمِ الحفاظ على استمراريَّتِها.

فغياب الأصول والجهل بها هو السَّبب الوَحيد وراء الاستمرار في الخلط بينَ ثوابتِ الدِّين ومُتَغيِّراتِه، وبين الأصول والفُروعِ، وبين المُنبَثِقِ عن النَّصِّ والوَحي وما هو ثَقافيٌّ، وبينَ العُرفِ والعبادة، وبين المَحلِّيَّةِ والعالَمِيَّةِ، وتحويل ديننا العظيم إلى دينٍ لا يُمكنُ فَهمُهُ.

وممَّا يُشير إلى مدى ابتعادنا عن الأصولِ؛ ظهورُ جدلٍ داخلَ أهلِ السُّنَّةِ اليوم، وانحطاطُ أهلِ السُّنَّةِ إلى دَرَكِ التَّقسيم المَذهَبِيِّ، وتحويل دينِ الوَحدةِ إلى فهمٍ يُنتِجُ التَّفرِقَةَ، وكأنَّه لا يكفينا الانقسام إلى سُنَّةٍ وشيعةٍ، وظاهريَّةٍ وباطنيَّةٍ، وتقليديٍّ وحَدَاثيٍّ، وأهلِ قرآن وأهل حديث!.

وظهورُ مُحاوَلاتٍ للبحث خارج الأصول مثلَ السَّلفيَّة الجديدة التي تَجعَلُ الثَّقافة ديناً، والحداثة/التَّاريخانيَّة التي تقرأ الدِّين/الوحي كنِتاجٍ للثَّقافة، ونِسيانِنا الإجماعَ والقياسَ والمَصلَحَةَ والاستحسانَ وسدَّ الذَّرائِعَ والمَقاصِدَ؛ كلُّ ذلكَ يُبيِّنُ لنا أيضاً انقطاعنا عن أصولنا.

يجبُ علينا مُواجَهةُ هذا الوضع الذي يفتح الطَّريق إلى انهيارِ خصالِ حضارتِنا الإسلاميَّة واحدةً واحدةً ويحمِلُ بين طيَّاتِه آلام البَحثِ والمُحاسَباتِ والاضطرابات العميقة، وتلافي خَسائرنا وإهمالاتنا قبل فواتِ الأوان، وتقديمُ الحِسابِ الجادِّ على الوضع البائِسِ الحزين الذي نَعيشُه من البيتِ إلى المَحِلَّةِ، ومن القَريةِ إلى المَدينَةِ، ومن البلدِ إلى جُغرافِيَّتِنا الحبيبة والعالَمِ الإسلاميِّ كلِّهِ، وإنتاجُ مشاريعَ جديدةٍ.

في مثل هذه الحال تَثقُلُ المَسؤوليَّة على كاهل العلماء والمُفكِّرينَ والمُثقَّفينَ، وتتمثَّلُ هذه المَسؤوليَّةُ في تَبَنِّي نهجِ الإسلام التَّوحيديِّ تجاه الإنسان والوجود والحياة والمعارف المُتعلِّقَة بذلك، وإعادة اكتشافِ أفهامٍ تعليميَّةٍ تُنتِجُ العلمَ والحِكمةَ والمَعرفةَ دون تصنيف العلوم إلى علومٍ دينيَّةٍ وغير دينيَّةٍ، ودون فصلٍ بين العقلِ والوحي، وإلَّا فإنَّ خطابات الحضارة الإسلاميَّة لن تتعدَّى أنْ تكون التهاءً بالماضي ودفاعاً ضدَّ ما يجري في عَصرِنا.

معهد الفِكرِ الإسلاميِّ:

انطلاقاً من هذه الأسبابِ المُوجِبَةِ تَقَرَّرَ بناءُ معهدِ الفِكرِ الإسلاميِّ بخصائص دوليَّةٍ، مَقرُّهُ في أنقرة، للبحث في هذه المَسائِلِ المصيريَّةِ الهامَّةِ، وسوف يتمُّ افتتاح معهدِ الفكر الإسلاميِّ باعتباره مَركِزاً بحثيّاً، وأكاديميَّةً تُنظِّمُ ندواتٍ وبَرامِجَ تعليميَّةٍ بمُستوى الدِّراساتِ العُليا. ويهدِفُ المعهدُ إلى القيام ببحوثٍ في مجال "المَنهجيَّةِ في الفكر الإسلاميِّ"، و"الأصولِ والمَقاصِدِ في العلوم الإسلاميَّة"، و"الأخلاق"، و"الجمال"، ومُشارَكَةِ أبحاثِهِ مع المَراكِزِ العلميَّة في العالَمِ الإسلاميِّ بلُغاتٍ مُختَلِفةٍ.

وعندما نُطلِقُ لفظَ "الأصول" فإنَّنا لا نقصد به أصولَ الفقه الذي يتناوَلُ العلاقة بين الحكم والدَّليل والدَّلالة واستنباطِ الأحكام من أدلَّتِها التَّفصيليَّة فحسب، بل نعني بذلك أصولَ فهم الدِّين بشكلٍ صحيحٍ باعتبارهِ كُلّاً مُتَكامِلاً، وفي هذا الإطار يحتاج "أصولُ الفقه" أنْ يَدخُلَ في مُحاسَبةٍ جادَّةٍ مع التَّحوُّلاتِ المَنهجيَّةِ التي تُوجِّهُ نَظرَتَنا إلى الكون والكائناتِ. وبالتَّالي فإنَّ معهدَ الفِكرِ الإسلاميِّ لن يربط مسألَةَ الأصول بالانسداد الحاصل في إنتاجِ المَعلوماتِ الفقهيَّةِ فحسب، بل يَربِطُها بالأزمة الأصليَّة النَّاجِمَةِ والمُتَّصِلَةِ بإنتاجِ المعلومات مُطلَقاً، وسوف يُكثِّفُ جهودَهُ من أجل التَّغلُّبِ على هذه الأزمة الأصليَّة.

ولا تقتَصِرُ المقاصِدُ كذلك على مَقاصِدِ الشَّريعة وحدها، بل تتعدَّاها إلى جميع مقاصد الدِّينِ وغاياتِه، مثل: مقاصِدِ التَّكوين، ومقاصِدِ العِمرانِ، ومقاصِدِ التَّنزيلِ، ومقاصِدِ السُّنَّةِ، ومقاصِدِ القرآن، ومقاصِدِ التَّكليف. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّه من الضَّروريِّ بمكانٍ أنْ نَتَناوَلَ الفكرَ الإسلاميَّ والعلوم الإسلاميَّة التي بَنَتْ هذا الفِكرَ من جديدٍ في سبيل فهمِ الأصول والمقاصد فهماً صحيحاً. فمقاصِدُ التَّكوين هي الطُّرق التي تتناول الغاية والحكمة من الخلق بجميع جوانبها، وتُضفي معنىً على الوجود، وتُؤمِّنُ فهماً صحيحاً للطَّبيعة والكون. ومَقاصِدُ العمران هي الطَّريقة التي تُؤمِّنُ لنا فهم التَّاريخ والحياة الاجتماعيَّة، وتاريخ الحضارات، في إطار المبادئ المُنسَجِمَة مع "سُنَنِ الله تعالى". ومقاصِدُ التَّنزيل هي غاية الوحي والنُّبوَّةِ والحاجة إليهما. ومقاصِدُ القرآن هي المقاصِدُ الكُلِّيَّةُ التي يشير إليها القرآن الكريم، وليس معاني آياتِ القرآن آيةً آيةً. ومقاصِدُ السُّنَّةِ هي القدوة العالميَّةُ التي تُعبِّرُ عنها الأعمال المُتَكامِلَةُ التي تُعبِّرُ عن غايات الرِّسالة، وليس الأعمال الخاصَّة برسول الله (ص). ومقاصِدُ التَّكليف هي المقاصِدُ الكُلِّيَّة التي تُعبِّرُ عن علاقة الإنسان بالدِّين، وسيره في الحياة وفقَ أحكام الدِّينِ باعتباره مُكلَّفاً. ومقاصِدُ الشَّريعة هي المقاصِدُ الكُلِّيَّة في مَنظومَةِ الأوامر والنَّواهي المُتعلِّقَة بالمُعامَلاتِ. وغنيٌّ عن البيان أنَّه من غير الممكن فهمُ مَقاصِدِ الشَّريعة دون تحديد بقيَّة المَقاصِدِ.

والحكمة في الفِكرِ الإسلامي تُعبِّرُ عن تركيبٍ رائعٍ للعلمِ والعَمَلِ، وتَهدفُ إلى تحقيق الكمال الإنسانيِّ في نهاية المطاف. وفي هذا الإطار يَعتَبِرُ معهدُ الفكر الإسلامي ضمن مسؤولياته الرئيسية؛ إعادةَ دراسة علم الأخلاق الذي يُعدُّ المُؤشِّرَ الأساسيَّ لوحدة العلم والعمل بجميع جوانبها النظرية والعملية.

سيُشكِّلُ معهدُ الفكر الإسلاميِّ أعمالَهُ تحتَ العناوين المذكورة أدناه:

1-      الفكر الإسلاميُّ.

2-      العلوم الإسلاميَّة.

3-      المَنهجيَّةُ والأصول.

4-      المقاصِدُ.

5-      القِيَمُ والأخلاق.

 

1-      الفكر الإسلاميُّ:

التَّفكير هو أحد أهمِّ المفاهيم المُؤسِّسَةِ لتقليد العلوم الإسلاميَّة. فالتَّفكير في آياتِ القرآن الكريم أخرجَ علومَ التَّفسير والفقه والكلام وغيرها من العلوم الدِّينيَّة، وحقَّق مُكتَسباتٍ علميَّةً مُنقَطِعة النظير. والتَّفكير في الكائناتِ والآفاق بتوجيه الآيات القرآنيَّة أسس لنُشوءَ علوم الطبيعة، ومَهَّدَ الطَّريق أمام أدبيَّاتٍ غنيَّةٍ جدّاً في هذا المجال. والتَّفكيرُ في عالم الأنفُسِ بنى تقليد العِرفان الذي يُضفي ثراءً على عالمنا المَعنَويِّ، إلى جانب دورِهِ في نشوء علوم النَّفسِ والأخلاق.

يتحدد الإطارُ المَفهومِيُّ للفِكرِ في القرآن الكريم بمَفاهيمِ التَّعقُّلِ والتَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ والتَّذكُّرِ والتَّأمُّلِ والنَّظرِ والبَصرِ والاعتبارِ. فالتَّعقُّلُ يعني حملَ مَلَكاتِ العقلِ على التَّحرُّك في الطَّريق المُستَقيمِ. والتَّفكُّرُ الذي هو نتيجةُ التَّعقُّلِ لا زمانَ له، ويأتي بمعنى التَّفكيرِ في كلِّ مَوضوعٍ وفي كلِّ حينٍ. والتَّذكُّرُ المُشتَقُّ من "ذِكرى" و"ذاكر" فهو التَّفكيرُ بالماضي. والتَّدبُّرُ المُشتَقُّ من "دَبَرَ" و"تَدبير" يعني التَّفكير في عواقبِ ما عِشناه. والتَّأمُّل المُشتَقُّ من "أَمِلَ" يأتي بمعنى التَّفكير بالمستقبل. والنَّظر يعني التَّفكير بما نراه، والنَّظر إلى الأشياء والكائنات بالعقل. والبصرُ يجمعُ بين العقلِ والقلبِ، ويعني النَّظرُ إلى الأشياء والكائناتِ بالقلب. وعمليَّة التَّفكير التي تجعلُنا نصلُ إلى المعنى والحقيقة بالقَولِ والفِكرِ والعِبرة والعِبارَةُ تُسمَّى بالاعتبار. وقد استدلَّت كتبُ الأصول بقوله تعالى: "فَاعْتَبِروا يا أولي الأَبْصَارِ"(الحشر 2) على الاجتهادِ. بناءً عليه أصبح اسم المُجتَهِدِ يُطلَقُ على العالِمِ الذي يَجمَعُ كلَّ عمليَّاتِ التَّفكير هذه، ويُؤمِّنُ فهمَنا الصَّحيح للدِّين.

وفي ضوء هذا الإطار المفهومي، لا بدَّ من إعادة قراءِةِ العروق الرَّئيسيَّة للفِكر الإسلاميِّ ومَبادِئِه وتاريخه، ومُناقَشَتِها ومُقارَنَتِها وتَفسيرها، من أجل نظرةٍ ويقظةٍ وبناءٍ وإحياءٍ جديدٍ، فوجود حضارةٍ جديدةٍ وإحياؤها يكون ممكناً بتحديد المَنهجيَّة والأصول التي تُبَيِّنُ المَصادر التي يجب أنْ نَتَّخِذَها أساساً في هذا المجال، والعلاقة التي نبنيها مع هذه المصادِرِ، وفي هذا الاتِّجاه ينبغي علينا أوَّلاً أنْ نُحدِّدَ الحجر الأساس لتاريخ الفكر الإسلاميِّ. وفي سياق تحديده ينبغي أنْ نَتَجنَّبَ القراءة التَّجزيئيَّةَ ونعتمد القراءةَ التَّكامُليَّةَ؛ لأنَّ تاريخ الفكر الإسلاميِّ مُتَرابِطٌ بعضُه ببعضٍ، باعتبارهِ كُلّاً مُتَكامِلاً.

ولن يكون بناءُ تَصوُّرِ الحضارة الإسلاميَّة مُمكِناً إلَّا عندما نقرأُ التَّراكُمَ الذي نملكه بشكلٍ فعَّالٍ ونفهَمَه بشكلٍ صحيحٍ، وبدونِ ذلك لا يمكن بناءُ عقلِ حضارةٍ جديدةٍ ولا تكوين تَطبيقاتِها ومُمارَساتِها، ويؤسِفُنا أنْ نقولَ إنَّ المَصادِرَ الأساسيَّة لتاريخ الفكر الإسلاميِّ لا يُمكنُ قراءَتُها، نظراً لوجود مُشكِلَةِ المَنهَجِ في القراءة والفهمِ، فما يَزالُ المَنهَجُ في قراءة هذه المُتونِ مُشكِلَةً في ذهنِ القارئ، فبعضُ الشَّرائِحِ تريدُ أنْ تقرأَ هذه المتونَ كما تقرأُ المُتونَ العاديَّةَ، ثمَّ تَجِدُها في أغلبِ الأحيانِ خاليةً من المَعنى وغيرَ ضروريَّةٍ، وتتخلَّى عنها، وتُقرأُ أحياناً دون العملِ على تفسيرها وإثرائِها، ونقلِ روحِها إلى يومنا؛ لأنَّه لا يتمُّ النُّفوذُ إلى عالَمِ الكَلِمَةِ والمَفهومِ.

وعند قراءةِ المَصادر لا بدَّ من عدم تجاهل عوائق تكرار الماضي والتَّقليد، بل كذلك عائق تَقديسِ هذا الماضي، ولا ينبغي أنْ تغيبَ عن الانتباه أدقُّ التَّفاصيل بين التَّقليد والاتِّباع على وجه الخصوص، فلا ينبغي تقليد الماضي بتقليدِ المَصادِرِ، بل يجب علينا اتِّباعُ الطَّريق الذي تشير إليه المصادِر واتِّبِاعُ فروعِهِ الفكريَّة. فقراءة المصادِر قراءةً بعيدةً عن الحاضر، وقراءةً لا تتَّخذُ الحاضر أساساً، ولا تضيف قيمةً على الحاضر، ولا تتيح فرصةَ المواجهة مع الحاضر، ولا تُسهِّلُ علينا فهم الحاضر؛ لا مَعنىً لها ولا قيمةً، وبالتَّالي عندما نقول التَّوجُّه نحو مصادِرِ الفكر الإسلاميِّ؛ لا نَقصِدُ به الانسلاخَ عن الحاضر والانقطاعَ عنه، بل نقصدُ به التَّحرُّكَ حسب مُقارَبَةٍ تَرصُدُ التَّوازُنَ بين الماضي والحاضر والمُستَقبَلِ، لذا علينا أنْ نختارَ فهمَ الماضي الذي أنجبَ الحاضر، لا أنْ نتغرَّبَ عن الحاضر.

***

لقد ركَّزت أعمالُ تاريخ الفكر الإسلاميِّ المُمَنْهَجة التي تمَّ تناوُلُها من قِبَلِ المُستَشرِقين، والعلماء الَّذِينَ نشؤوا تحت تأثير هذه الأعمال؛ على الفُروقاتِ بين مذاهب الإسلام المُختَلِفَة، أكثرَ من التَّركيز على تحديد أرضيَّتِها المُشتَرَكَةِ، فتمَّ تجاهُلُ الدَّيمومَةِ والتَّماسُكِ والتَّكامُلِ الدَّاخليِّ لتَراكُماتِ الفكر الإسلاميِّ، وتمَّ تقديم الجدل داخل مَناهِجِ الفِكرِ بين أتباع المذاهبِ المُختَلِفة على أنَّه جدلُ الفئاتِ الدُّنيا، ونتيجة عولمة الفصل التَّصنيفيِّ الذي ظهر في التَّقليد اللَّاهوتِيِّ الفلسفيِّ الغربيِّ، أصبح تمييز التَّصنيف الأعلى أمراً مُعترَفاً به من أجل جميع الأديان بشكلٍ لا يقبلُ النِّقاشَ، وعندَ تطبيق التَّمييز بين عِلمِ اللَّاهوت والفلسفة والتَّصوُّف على تاريخ الفكر الإسلاميِّ، أصبح التَّصنيف الأعلى بين الكلام والفلسفة والتَّصوُّف (أو البيان والبرهان والعرفان)؛ نقطةَ خروجِ جميعِ الدِّراساتِ، وانطلاقاً من نقطة الخروج هذه، ظهر الغُلُوُّ الكبير في الفُروقِ بين المذاهب، وطوى النِّسيانُ حقيقةَ تطوُّرِ هذه المذاهِب من أرضيَّةٍ مُشتَركةٍ، والخطأ الحاصل في التَّصوُّر نتيجةَ هذا الفصل التَّصنيفيِّ اليوم يُشكِّلُ العائِقَ الأكبر أمام الأبحاث المُتعلِّقَةِ بتاريخ الفكر الإسلاميِّ، وتطوَّرَ هذا الفصل التَّصنيفيِّ الذي ازداد حدَّةً مع مرور الوقت؛ إلى تَصَلُّبِ المذاهِبِ التي تملكُ نهجاً مُختَلِفاً خاصّاً بها في العالَمِ الإسلاميِّ، وأصبح أتباعُ كلِّ مذهَبٍ ينظرون إلى تقليد الفكر الإسلاميِّ من زاويتهم الخاصَّةِ، ويَرفُضون رفضاً مُطلَقاً جميع العناصِرِ التي تخرُجُ عن التَّقليد، بدلاً من أن ينظروا إلى هذا التَّقليدِ باعتباره فهماً كلِّيّاً، ويعيدوا بناءَه ضمن أبعادِ الزَّمان والمكان، وبما أنَّه لم تتمَّ رؤية الفَرقِ الهامِّ بين أن يكون لدى الإنسان تقليدٌ بالمعنى الإيجابيِّ، وبين أنْ يكونَ تقليديّاً بالمعنى السَّلبيِّ، فقد تمَّت تصفية العناصر التي افتَرضت أنَّها تُشكِّلُ عبئاً أثناء المُحاسَبة القائمة مع الحضارة الغربيَّة؛ تَصفِيَةً كبيرةً حتَّى أصبح الحديث عن تاريخ الفكر الإسلاميِّ أمراً مُستحيلاً على وجه التَّقريب.

بناءً عليه، سوف يقوم معهد الفكر الإسلاميِّ بدراساتِه وأبحاثِه المُتعلِّقَةِ بمَنهَجيَّةِ الفكرِ الإسلاميِّ والعلوم الإسلاميَّة، آخذاً بالحسبان هذه المحددات الهامَّةِ، ويتناوَلُ الفكرُ الإسلاميُّ باعتباره كُلّاً مُتَكامِلاً، من أجلِ فهم الأصول والمقاصد بشكلٍ صحيحٍ، ويُعطي الأهمِّيَّةَ في هذا الإطار للدِّراساتِ المَنهجِيَّةِ بين فروع العلوم المُختَلِفَةِ.

2-      العلوم الإسلاميَّة:

تحت هذا العنوان، سيَتَناوَلُ معهد الفكر الإسلاميِّ، في أبحاثه وبرامجه وندواته، هاتَينِ المَسألَتَينِ الأساسيَّتَينِ اللَّتَينِ تواجِهُهما العلوم الإسلاميَّة اليوم، وهما إشكاليَّة الكُلِّيَّة وإشكاليَّة الأصولِ. ونقصد بإشكاليَّة الكُلِّيَّةِ تضييقَ مفهوم العلوم الإسلاميَّة مع الزَّمن، وتخصيصها بمجالاتٍ بحثيَّةٍ معدودةٍ دون غيرها، وحطَّها إلى مرتبةِ علوم التَّفسير والحديث والفقه والكلام والتَّصوُّفِ وما شابه، وتمزيقِ العلومِ بتقسيمها إلى علومِ الدِّين وعلوم الطَّبيعة، وإلى علومٍ نقليَّةٍ وعلومٍ عقليَّةٍ، رغم أنَّه مُحالٌ أنْ نتخيَّلَ التَّنزيلَ والتَّكوينَ مُنفَصِلَينِ عن بعضِهما، ولا يصحُّ الفَصلُ بين علم التَّفسير الذي يشرحُ آياتِ القرآن وعلوم الطَّبيعيَّاتِ التي تَشرحُ آياتِ الكون (الآفاق والأنفس)، فنَعتَبِرُ الأولى من العلوم الإسلاميَّة، والثَّانيةَ من العلوم غير الإسلاميَّةٍ.

والتَّخصُّصُ المَوجودُ في تقليدنا الأكاديميِّ أفسدَ هذه الكُلِّيَّةَ مرَّةً أُخرى حين شَرذَمَ الحقلَ الضَّيِّقَ الذي تمَّ تعريفُهُ بعلوم الدِّين، وكان من الأخطاء البارِزَةِ التي يقع فيها كثيراً الأكاديميُّونَ المُسلِمون اليوم؛ أنَّهم يجعلون الفِرعَ الذي يتخصَّصونَ فيه المَركَزَ في تشكيلِ الإسلام، ويحاكِمونَ بقيَّة المَناهِجِ على أساسه، وهذه النَّظرة أو الخطاب يُشكِّلُ عائقاً أمام خضوعِ الفكر الإسلاميِّ لتَقييمٍ كُلِّيٍّ أو قراءةٍ كلِّيَّةٍ، فجميع العلوم في تقليد علوم الإسلام مُتداخِلَةٌ، لا يمكن الفصلُ بينها، وتوجدُ بينها انتقالاتٌ وتداخلٌ وتراتبيَّةٌ في آنٍ واحدٍ. فعلمُ الكلام على سبيل المثال، يتَقاطَعُ طريقُه في نقاطٍ عديدَةٍ مع أصول الفقه على مُستوى المَنهجيَّةِ، ومع الفلسفة على مُستوى المَضمونِ وحُقول المُناقشةِ، ومع التَّصوُّف على المُستَوى الأخلاقيِّ الفرديِّ الذي يستندُ على الزُّهد والتَّقوى، والأرضيَّة المَنهجيَّة والمصادِرُ التي يَستَنِدُ إليها علم الكلام وعلم الفقه مُشتَركةٌ.

وقد تَركَ لنا علماء المُسلِمين وفلاسفتهم اعتباراً من العهود الأولى أدبيَّاتٍ هامَّةً جدّاً حول تصنيف العلوم ومراتِبها، وفي هذه الأدبيَّات كانت العلوم كُلُّها ضمنَ ترتيبٍ مُمَنهَجٍ على أرضيَّةٍ مُشتَركَةٍ، وعند تقييم هذا الإرث، يجبُ ألَّا ننسى أنَّ اعتبار التَّفسيرات/البُنى العلميَّة التي تَتحقَّقُ ضمن الشُّروط التَّاريخيَّة حقّاً مُطلَقاً، واعتبارَها نظاماً صالِحاً في كل الأزمِنَةِ؛ يعني تجاهُلَ القُدرَةِ على الإنتاجِ الفكريِّ الإنسانيِّ بمُختَلَفِ أنواعه، فالمنهجيَّة المُطلَقَة، والزَّعمُ بوجود فهمٍ صحيحٍ واحدٍ دون غيره، يُشكِّلُ العائق الأكبر أمام إنتاجِ المُفكِّر للفكر في إطار تماسُكِهِ الفِكريِّ المُمَنهَجِ، ومن أجل تحقيق المُقارَبة الكُلِّيَّة المذكورة يجب حلُّ مشكلةِ الأصول والمنهجِ أوَّلاً.

 

3-      الأصول والمَنهجيَّة:

لقد اختار معهد الفكر الإسلاميِّ موضوعَ الأصول والمَقاصِدِ مجالاً بحثيّاً له الأولويَّةُ؛ لأنَّ علم الأصول - حين يتمُّ أخذُ عمليَّةُ نشوئِه وتطوُّره التَّاريخيِّ بالاعتبار - ليسَ مُجرَّدَ علمٍ يعتني بإنتاجِ قواعد الفقه وبناء أُسُسِها، فعلم الأصول علمٌ هامٌّ يرسُمُ حدودَ المَشروعيَّةِ في إنتاج المَعلوماتِ الدِّينيَّة، ويُشكِّلُ أرضيَّةَ الأفكار التي يضعُها المُسلِمون على المُستوى الفلسفيِّ في مجال الفقهِ والأخلاق، والحفاظ على وظيفة الأصول في التَّحكُّم والتَّحقيق يكمنُ في الحفاظ على أهمِّيَّتها، لقد نشأ علم الأصول باعتبارِهِ علماً يهدف إلى إنتاجِ الفقه قبل كلِّ شيءٍ، وتدوينُ قواعد الأصول حصلَ بعد الفقه، وأولى الكتبِ النَّاضجة لهذا العلم صدرت في مطالِعِ القرن الرَّابع الهجريِّ، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الأذهان في العهود السَّالِفَةِ كانت تخلو من الفكرِ المُوجّهِ للمَنهجيَّة، فالأحكام الفقهيَّة التي ظهرت نتيجةَ الاجتهاد في العصور الثَّلاثة الأولى تمَّ الحصول عليها بالقواعد المَنهجيَّةِ التي اكتَسَبت في ما بعدُ أبعاداً أكثرَ تقَنيَّةً بعد أنْ أخذت طابَعاً مَنهجيّاً في أدبيَّات الأصول.

وبما أنَّ أصولَ الفقه تؤدِّي وظيفة مُحدِّد الإطار وواضع القواعد والقائم بالتَّحكُّم، فإنَّها شكَّلت أرضيَّةً شرعيَّةً ليس لعلم الفقه فحسب، بل للبياناتِ التي قدَّمَتها العلوم الدِّينيَّة الأُخرى أيضاً، فهو الذي عيَّنَ حدود التَّحدُّثِ باسم الدِّين إلى حدٍّ ما، وتمَّت الاستعانة دائماً بقواعد الأصول لفهم القرآن والسُّنَّة، وتفسير الآياتِ والأحاديث، وتمَّ الرُّجوع إلى قواعد الأصول في تقييم النُّصوص في المسائل الكلاميَّة من حيث الثُّبوت والدَّلالة، لهذا السَّبب، لم يتمَّ الاعتراف بشرعيَّةِ التَّقييماتِ التي لم تُوافِق عليها قواعد الأصول التي باتَت إطاراً مرجعيّاً مُشتَركاً للمُسلِمين.

لقد حاول علم الأصول أنْ يرسمَ باستمرارٍ الإطار الذي يمكن أنْ يتحرَّكَ فيه عقل الإنسان بحُرِّيَّةٍ للحصول على الأحكام الدِّينيَّة وتفسير النُّصوص، ضَيَّقَّ في ذلك من ضَيَّقَ، ووَسَّعَ من وَسَّعَ، انطلاقاً من طبيعة الإنسان واللُّغة والنَّصِّ. بناءً عليه، يمكننا الحديث عن إطارٍ ربَّما يعطي مكاناً لمقارباتٍ مُختَلِفةٍ، ولا يلتَزِمُ خطّاً واحداً ضمن تقليد الأصول. وفي ظلِّ دعواتِ الاجتهاد التي تزايَدَ تأثيرُها في العالَمِ الإسلاميِّ في نهايات القرن التَّاسع عشر؛ تمَّ العمل على تحميلِ أصولِ الفقه وظيفةً مَنهجيَّةً للاستعانة بها في حلِّ المسائل الجديدة، ووجهة النَّظر هذه التي تميلُ لتقييم الأصول على أنَّها طريقةٌ لاستخراج الأحكام من النُّصوص بشكلٍ مُباشِرٍ، لم تبلغ نَتائِجَها المَرجوَّةَ؛ لأنَّ هَدَفها لم يكن يتوافَقُ مع هدف تأسيس أصول الفقه، ومن أجل الحصول على هذه النَّتائج تمَّ تسليطُ الضَّوء على تجديد علم أصول الفقه، بعبارةٍ أُخرى تمَّ العمل على تحويل علم أصول الفقه إلى علمٍ مَنهَجِيٍّ قادرٍ على إيجاد حلولٍ للمسائل.

وكما أثَّر دخول العالَمِ الإسلاميِّ في فترة الحداثة في العديد من المَجالاتِ؛ أدَّى كذلك إلى نشوءِ مَشاكلَ هامَّةً في عالَمِ الفكر الإسلاميِّ، والمشكلة التي صودِفَت في المقام الأوَّل تَجلَّت في العمل قدر المُستَطاعِ على التَّحكُّمِ بعمليَّةِ التَّغيُّرِ الضَّخمة التي لا يمكن إيقافها، وإدارتِها/تَوجيهِها على أرضيَّةٍ شرعيَّةٍ حسب ثوابت الإسلام التي لا تتغيَّرُ، وفي هذا السِّياق كان لا مناصَ من أنْ تتناول الأجندات مَطالِبَ التَّغيير في مجالِ الأحكام الفقهيَّةِ نتيجةَ تغيير الأوساط المُجتَمَعيَّة التي ظهر فيها جانبٌ كبيرٌ من هذه الأحكام.

وكانت إحدى الأولويَّاتِ في هذا الإطار فكرةُ الاستفادة من أصول الفقه كمَنهجيَّةٍ مُناسِبَةٍ لاستنباط أحكامٍ جديدةٍ، ولكنَّ خطَّ التَّيَّارِ الرَّئيسيِّ لأصول الفقه الذي يُشكِّلُ كما ذكرنا أعلاه نظريَّة المذهَبِ والذي تَطغى عليه وظيفَةُ التَّحكُّمِ وتحديد الإطار في العمليَّة التَّاريخيَّة؛ لم يكن مُواتياً لتكوين مَنهجيَّةٍ تُؤَمِّنُ التَّجديد المَرجُوَّ، فالتَّيارُ الرَّئيسيُّ لأصول الفقه (الشَّافعيُّ/الأشعريُّ) يَنظُرُ إلى مفهوم "الاستحسان" عند الحنفيَّة ومفهوم "المَصلَحة" عند المالكيَّة، واللَّذَينِ يبدوان الأصلح لتحقيق التَّغييرِ؛ على أنَّهما أصلانِ مَردودانِ أو مُختَلَفٌ عليهما، ولهذا السَّبب تحديداً تردَّد الكلام الكثير عن حاجة الأصول للتَّجديد، وعندما لم يتحقَّق ذلك، تمَّ الإشارة إلى أمورٍ بدت مُواتِيَةً لتجديد الأصول، بموقِفٍ براغماتِيٍّ؛ لأنَّ الهدف يتمثَّلُ في الحلول المَلموسَةِ.

ونجمُ الدِّين الطُّوفي الذي اقترح تقديم المَصلحة على النَّصِّ باعتبارها غايةَ الشَّارع الكُلِّيَّةِ لَقِيَتْ آراؤه في هذه الفترة وللمرَّة الأولى اهتماماً بالغاً في العالَمِ الإسلاميِّ، فتمَّ تقديم العُرفِ والقواعد الكلِّيَّة التي لم تجد لها مكاناً قويّاً في الأصول الكلاسيكيَّة؛ كأدلَّةٍ ومصادِرَ لاستنباط الأحكام، وذلك بفعل حركةِ مجلَّة الأحكام العدليَّة. وقيل إنَّ الأصول الكلاسيكيَّة يجب استعمالُها في موضوع العبادات، واقتُرِح تأسيس فرعٍ جديدٍ من أجل المُعاملات تحت مُسمَّى أصول الفقه الاجتماعي. ولكنَّ هذا المُقتَرَح كان من النَّوع الذي يستطيع على الأكثر تشكيل أرضيَّةٍ شرعيَّةٍ فقهيَّةٍ لبعض التَّغيُّراتِ التي لا يمكن إيقافها. من جانبٍ آخرَ، كان لهذه المُقتَرَحاتِ حقيقةٌ ملموسةٌ، وهي أنَّ أصول الفقه كان لها تأثيرها في المُجتَمَعاتِ المُسلِمة والتَّفكير الفقهيَّ، نظراً لبُنيَتِها التَّحكُّميَّة، وتمَّ تقييد مفهوم "الرَّأي" المُستَعملِ بشكلٍ أكبرَ عند الصَّحابة وجيل الفقهاء أثناء عمليَّة تشكيل كُلِّيَّاتِ الفقه. 

عندما فشلت محاولاتُ البحث التي بدأت داخل الأصول، انطلقت محاولات بحث التَّغيير خارج الأصول، فطالَ الجدل والنِّقاش نظام الأدلَّة وتسلسُلَها الهرميَّ في الإسلام، وهيمَنَ غياب الأصول على الفكرِ الدِّينيِّ، وفي هذا الإطار نذكر كمثالٍ عن البحث خارج الأصول، السَّلفيَّةَ الجديدةَ التي تقرأُ النُّصوص الدِّينيَّة كما تقرأُ النُّصوص القانونيَّة، وتتجاهَلُ فلسفَةَ الأصول وتنتَقِدُ العقلَ والقِياسَ والمَصلَحَةَ والاستحسان، وتحطُّ من شأن الوحي إلى المُتونِ اللِّسانيَّة، وتكتَفي بالتَّفسير اللَّفظيِّ والظَّاهريِّ للنَّصِّ وتتَّخذُه أساساً، وتَفهَمُ السُّنَّةَ على أنَّها شكلٌ تمَّ إعداده وعيشه. ونذكر كذلك التَّاريخانيَّة التي تقرأ الوحي على أنَّه نِتاجُ الثَّقافة التي يُخاطِبها؛ في محاولةٍ للخروج عن الأصول. واليوم مع الأسف يعجُّ العالَمُ الإسلاميُّ بمُحاولاتِ الخروج عن الأصول تحت أفهامٍ دينيَّةٍ مُختَلِفَةٍ. وبالتَّالي يبقى السُّؤال التَّالي: "كيف يجب أن يكون علم الأصول في يومنا؟" مسألةً هامَّةً تستحقُّ الإمعان والتَّفكير.

بدايةً يجب التَّأكيد على أنَّ المعنى الظَّاهريَّ للنُّصوص تمَّ فهمه من قِبَلِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه الكرام، وتم الحفاظ على هذا المعنى بجميع فروقاته المُحتَمَلة (الظَّاهر، النَّصُّ، الحقيقة، المجاز، إلخ) اعتماداً على قواعد اللُّغة في علم الأصول. ولم يُسمَح إطلاقاً للاتِّجاهاتِ الظَّاهريَّة والباطنيَّة بالضغط على هذا الإطار، وتمَّ تحديد نقاط الاتِّفاق والاختلاف في فهم النُّصوصِ. ولا ننسى أنَّ العمل تحت تأثير أفهام العصر في وقتنا الحالي، وتحميل النُّصوص معاني مُختَلِفةٍ بالضَّغط على حدود اللُّغة ودون اعتبارِ هذا الإطار، يُمكِنُه أنْ يكونَ ضرباً من الباطنيَّة، ناهيك عن كونه يُمثِّلُ تضارُباً علميّاً. من ناحيةٍ أُخرى، تسير الأفهام التي تبحثُ عن مُرادِ الشَّارع في المعنى الحرفيِّ للَّفظِ، وتَتَجاهَلُ التَّشبيه والتَّمثيلَ في اللُّغة، ولا تأخذ بالسِّياقِ وأسبابِ النُّزولِ والوُرودِ؛ فتَتَحرَّكُ خارج الإطار الذي ترسمه الأصول. بناءً عليه، نرى أنَّ اجتهاداتِ البيان والقياسِ لأصول الفقه غير كافيةٍ للرَّدِ على مسائل عصرنا، وأنَّه يجب تطوير اجتهاد الاستصلاح في ضوءِ المقاصِدِ. وعدمُ اتِّباعِ هذا الطَّريق وتحميلُ النُّصوص معاني لا تحتملُها يؤدِّي إلى المشاكل التي أشرنا إليها. غير أنَّ أصول الفقه تُبدي نفسَها هنا بخاصِّيَّتها التَّوجيهيَّة، ولا تَقبل هذا النَّوع من التَّفسيرات السَّاذَجَةِ، ولكنْ إنْ كانت هناك رغبةٌ في تحويل الأصول إلى مَنهجيَّةٍ تستطيع الرَّدَّ على مسائل عصرنا الحاليِّ؛ فلا بدَّ أنْ نتناوَلَ "المقاصِدَ" من جديدٍ باعتبارها علماً. 

4-      المقاصِدُ:

إنَّه ما من شكٍ أنَّ خَلْقَ الله تعالى والدِّينَ الذي أرسله إلينا يخلُوان تماماً من اللَّغوِ (بلا معنى) والسَّهوِ (بلا غاية) واللَّهوِ (بلا فائدة) والعَبَثِ، لكنَّ ما لدينا من قلَّةِ الفهمِ وخطأ التَّفسير يمكنه أنْ يقودَنا إلى الاشتغال بالعَبَثِ، والذي ينقذنا من الاشتغال بالعبث هو الفهم الصَّحيح للمقاصِدِ. وغايتنا من المقاصِدِ - كما أسلفنا - ليست مقاصِدُ الشَّريعة فحسب، بل جميعُ المَقاصِدِ الدِّينيَّة مثل مقاصِدِ التَّكوين، ومقاصِدِ العِمران، ومقاصِدِ التَّنزيل، ومقاصِدِ القرآن، ومقاصِدِ السُّنَّة، ومقاصِدِ التَّكليف.

وتفصيلُ الفهم المُتعلِّق بالمقاصد وتطويرهُ شرطٌ ضروريٌّ سواءٌ من أجل تقييم قابليَّةِ تطبيق الأحكام الموجودة في أدبيَّات الفقه، أو من أجل إيجاد حلولٍ للمسائلِ المُستَجِدَّة. وبما أنَّ الأقسامَ الثَّلاثةَ للمقاصد (الضَّروريَّات والحاجيَّات والتَّحسينيَّات)، وجمع الضَّروريَّات في خمس موادٍ (حفظ الدِّين والنَّفس والنَّسل والعقلِ والمال) مسائلُ اجتهاديةٌ، فإنَّ تطوير هذا المجالَ ممكنٌ وضروريٌّ.  فإلى جانب هذه الأُسُسِ الخمسةِ لا بدَّ من التَّأكيد على ضرورة إضافة مواضيعَ أُخرى، مثل: الحفاظ على كرامةِ الإنسان، وحُرِّيَّاتِهِ الأساسيَّة، وتحقيق العدالة، ومُحارَبَةِ الفقر، وتأمين التَّضامُنِ الاجتماعيِّ، والتَّوزيع العادل للدَّخل، وتوزيع الثَّروات على كُتَلٍ واسعةٍ، وتحقيق السَّلام في العالَمِ، وضمان الأمنِ. والقيامُ بهذه الأعمال ممكنٌ في إطار علم الأصول، وبناءُ فرعٍ خاصٍّ تحت مسمَّى علم المقاصد ممكنٌ أيضاً، وحين يتمُّ تطوير الأصول في قسم المقاصِدِ من حيث ماضيها العريق في تقليد الإسلام، يمكن التَّفكير في إثرائها بحيث تَشمَلُ أيضاً الفقه الإسلاميَّ وفلسفة الأخلاق.

ثمَّةَ أمرٌ آخرُ ينبغي تَناوُلُهُ مع المقاصِدِ، وهو مسألة تَغيُّرِ الأحكام. فهذا الموضوع تمَّ تناوُلُه في أدبيَّاتِ الفقه في سياقِ مسائلَ مُعيَّنةٍ، ولكنْ إنْ كانت هناك رغبةٌ في أنْ تكونَ القِيَمُ الإسلاميَّة مُؤَثِّرَةً في حياة المُسلِمين، لا سيَّما في وقتنا الحاضر، فلا بدَّ من تقييم هذا الموضوع بشكلٍ مُمَنهَجٍ عن طريق لجانٍ علميَّةٍ، وضَمِّه إلى بُنيَةِ الأصول باعتبار صِلَتِهِ بالمقاصِدِ والاجتهاد، تفادياً للانحراف عن ثوابت الدِّين. وفي هذا السِّياق أيضاً يجب تناول الأحكام الثَّابتة بالنَّصِّ تحديداً، وهل سيستَمِرُّ تطبيق الحكم الثَّابت بالنَّصِّ في حال عدم تحقيقهِ الهدف الذي شُرِّعَ من أجله أم لا؟ وقد رأينا بعض المُؤلِّفينَ يتناوَلونَ هذه المسائِلَ جُزئيّاً في بُنيَةِ الأصول.

هناك ثلاثة قواعدَ تَلفُتُ الانتباهَ في هذا السِّياق من حيث ديناميكيَّة الفقه الإسلاميِّ: "لا يُنْكَرُ تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان"، و"يدور الحكم مع علته وجوداً وعدماً" أي "ينتفي الحكم المَبنِيُّ على عِلَّةٍ غائِيَّةٍ بانتفاءِ عِلَّتِهِ"، "إذا أفاد الحكم غير غايته عاد إلى ضده"، وبعبارة أخرى "الحكم المَشروعُ لاستحصال فائدةٍ، في حال أدَّى إلى ضدِّه عند التَّطبيق يكون باطلاً".

بناءً على هذه المبادئ فسَّرَ فقهاء المذهب الحَنَفيِّ تَغيُّرَ عددٍ من الأحكام في عهد الخليفة عمرَ رضي الله عنه. ولو تمَّ تناوُلُ تغيُّر الأحكام في بُنيَةِ الأصول في سياقِ المَقاصِدِ والاجتهاد؛ لأَمكَنَ مناقَشَةُ الموضوع على أرضيَّةٍ أكثر مَتانَةً، بعيداً عن الشَّخصنةِ، ولا يمكن التَّفقُّه في مسائل العصر إذا ما تمَّ إهمال هذا الموضوع. وحينها لا مفرَّ من ظهور نوعٍ من المُسلِمين الَّذِينَ يعانون من تشوُّشٍ في الذِّهن والفعل، نتيجة امتلاكهم شخصيَّةً مُزدَوجَةً، تُؤْمِنُ بضرورةِ الحفاظ على النِّظام بالوفاء، لكنهم يعيشون في الواقع حسب القِيَمِ العلمانيَّة. والمخاوِفُ المُتعلِّقة بهذا الموضوع ينجُمُ أساساً من خوف هجران النُّصوص تحت مسمَّى "المقاصِدِ". والدِّراسات التَّخصُّصيَّة التي جرت حول المقاصِدِ في القرن العشرين تضع أمام الأنظار المخاوفَ التي عاشها المُسلِمون، والدِّراسات الجديدة في هذا الموضوع لا تسمح بتعدِّي الإطار الكلاسيكيِّ الذي ترسُمُه الأصول. وقد بلغ الأمرُ بالسَّلفيِّين الَّذِينَ يحبِسون الفكر الإسلاميَّ في قوالِبِهم الضَّيِّقة أنْ أطلقوا على "المقاصِدِ" اسم "المفاسِدِ".

وقد قال ابن القَيِّم قبل عصورٍ مضت: "إِنَّ الشَّرِيعَة مَبناها وأساسُها على الحكم ومَصالِحِ العِبادِ، فِي المَعاشِ والمَعادِ، وَهِي عدلٌ كُلُّها، وَرَحْمَةٌ كُلُّها، ومصالحٌ كُلُّها، وَحِكْمَةٌ كُلُّها، فَكلُّ مَسْأَلَةٍ خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلى ضدِّها، وَعَن المصلحَة إِلَى المفسدَة، وَعَن الحِكْمَة إِلَى العَبَث فليست مِنَ الشَّريعَة، وإنْ أُدخلتْ فيها بالتَّأويل، فالشَّريعة عدلُ الله بَين عباده، وَرَحمته بَين خلقه، وظِلُّه فِي أرضه، وحكمَتُه الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى صدق رَسُوله صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّم أتمَّ دلَالَة وأصْدقها". والعمل المُترتِّبُ هنا هو التَّعبير عن رحمة الدِّين وحكمته وعدالَتِه ومصلحته بلسانٍ بَيِّنٍ واضحٍ للأفهام.

وقبل الفراغ من المقاصَدَ نودُّ الإشارة أيضاً إلى هذه المسائل المُتعلِّقة بأصول الفقه:

1)      ينبغي الحفاظ على سقفِ علم الأصول وتقليدهِ الأساسيِّ، والحفاظ على قواعد اللُّغة. وقد سبق البيان بأنَّ القواعد التي طوَّرتها الأصول فيما يتعلَّق بتفسير النُّصوص يمكن تطبيقها على بُنيَةِ كلِّ لُغَةٍ. وهنا ينبغي تفضيل الدَّلالة الحقيقيَّة على الدَّلالة الإضافيَّة، ودلالة العِبرَةِ على دلالة العِبارَةِ، أي تفضيل الدَّلالة الحقيقيَّة التي تتَّخذُ المقاصِدَ المُستَنبَطَةَ من جميع النُّصوص أساساً؛ على الدَّلالة الإضافيَّة التي تستَنِدُ على ألفاظ النُّصوص وعلى استنباط الأحكام من الألفاظ.

2)      في الأبحاث المُتَعلِّقَةِ بالحكم في أدبيَّات أصول الفقه يتمُّ الحديث عن فلسفة الأخلاق والفقه الإسلاميِّ. ويظهر عددٌ كبير من المُؤلِّفين على مرِّ التَّاريخ يَعْرِضونَ مُقارَباتٍ تستحقُّ الذِّكرَ في هذا المجال. ويمكنُ تناوُلُ موضوع العدالة بالتَّفصيل في موضوع الحُسنِ والقبح أو في سياق المقاصِدِ. ويمكن في هذا الإطار تناوُلُ كرامة الإنسان وحصانَتِهِ لعلاقته بفكرةِ الحقِّ أو مفهوم العِصمَةِ الذي يلجأ إليه الأُصوليُّون الأحناف عند تأسيسهم لمَسؤوليَّة الإنسان. ويمكن كذلك إعادة تقييم مفهوم حقوق الإنسان في هذا السِّياق. وفي النَّتيجة يمكن للقسم المُتعلِّق بأبحاث الحكم في علم الأصول أنْ يُشكِّلَ أرضيَّةً مُناسِبَةً للمسائل التي يُمكِنُ تناوُلُها تحت عنوان الفقه الإسلامي وفلسفة الأخلاق. وفي هذا الإطار ينبغي إعادة تَناوُلِ العلاقة بين الأحكام والأخلاق، وألَّا ننسى أنَّ "الأخلاق عقل الأحكام".

3)      من الواضح أنَّ اجتهادات البيان والقياس تملك إمكاناتٍ مَحدودَةً للإجابة على مسائلِ وقتِنا الحاليِّ. وفي هذا السِّياق ينبغي تعزيز فكرة المقاصِدِ، والتَّركيز على اجتهاد الاستصلاح، فمفهوم المقاصِدِ في نظام الأصول الكلاسيكيِّ ظهر في سياق تقسيم "الوصف المناسب"، والتَّقسيم الخُماسيُّ الذي طوَّره الجُوَينِيُّ تمَّ جمعه عند الغزَّاليِّ تحت ثلاثة عناوينَ هي الضَّروريَّات والحاجيَّات والتَّحسينيَّات، وتمَّ حصر الضَّروريَّات في خمس موادٍّ رئيسيَّةٍ تتجلَّى في الحفاظ على الدِّين والنَّفس والنَّسل والعقل والمال. ودرس الشَّاطبيُّ هذا الموضوع بتفصيلٍ، لكنَّ ما فعله لم يتمثَّل في تطوير مَنهجيَّةٍ جديدةٍ اعتماداً على المقاصِدِ، بل كان ما قدمه بياناً لكيفيَّة مُراعاةِ المقاصِدِ في الأحكام الموجودة. في هذه الحال، يجبُ الوقوف عند السُّؤال التَّالي: كيف يمكن تطوير فكرة المقاصِدِ التي حاول تطويرها العديد من العلماء بعد الشَّاطبيِّ من أمثال الطَّاهر بن عاشور، وعلَّال الفاسيِّ، وجمال الدِّين عطيَّة، وأحمد الرَّيسوني؟

والمهمُّ هنا هو كيف يتجلَّى فهم المقاصِدِ في حياة المُسلِمين وعلاقاتهم. فتناول الأخلاق على وجه الخصوص باعتباره مبدأً من مبادئ المقاصِدِ؛ يحمل أهمِّيَّةً كبيرةً. ومشروع "تخليق المقاصِدِ" (أي تحويل الأخلاق إلى حالة المقاصِدِ، أو إضفاء الأخلاق على المقاصِدِ) للمُفكِّرِ المغربيِّ طه عبد الرحمن؛ هامٌّ من هذه النَّاحية.

 

5-      القِيَمُ والأخلاق:

يمكنُنا القول إنَّ البشريَّة على صعيد العالَمِ تعيش اليوم أزمةَ المَعنى، وهذه الأزمة جلبت معها أزمةً أخلاقيَّةً أيضاً، والسَّبب الأكبر في أزمة الأخلاق هو القِيَمُ التي تجعل التَّصرُّفاتِ أخلاقيَّةً، والجدل الدَّائرُ حول هذه القِيَمِ أو مَصادِرها. وضياع التَّرتيب الهَرَمِيِّ للقِيَمِ أفضى إلى أخطاءٍ كبيرةٍ لا تقلُّ عن الأخطاء النَّاتجةِ عن ضياع القِيَمِ ذاتِها. والأنكى من ذلك، تبديل أماكنِ القِيَمِ، واعتبار الحَسَنِ قبيحاً، والقبيحِ حَسَناً، والتَّبادُلُ بين المُفيدِ والضَّارِّ، والحقِّ والباطل. والخطأ الأكبر من هذا كلِّه هو أنَّ الفسادَ بدأ يحمل ماهيَّةً دينيَّةً، ويتمُّ العمل على إيجاد مَسنَدٍ من الدِّين لتصرُّفاتِنا غير الأخلاقيَّة، أو تحويل الأمور غير الأخلاقيَّة إلى دينٍ. وبعبارةٍ أُخرى، فَهْمُ الدِّين المُرسَلِ إلينا لتعليمنا الأخلاق الحميدَةِ فَهْماً يجعله دليلاً لتَصرُّفاتِنا غير الأخلاقيَّة، والمصيبة الكُبرى في حياة المُؤمِنين هو تجريد الفقه من الأخلاق، واقتصار العباداتِ على الشَّكلِ والمَظهَرِ من خلال إبعادها عن الغايات الأخلاقيَّة.

إنَّ حال عالَمنا الذي تحوَّلت فيه المعلومات إلى معلوماتِيَّةٍ بَحتَةٍ، والمَعلوماتيَّةُ إلى قطاعٍ للتَّرفيه، بفضل تكنولوجيا الاتِّصال العصريَّة، والتي يسودُها التَّلوُّث و"الجهل المَعلوماتيُّ"؛ يُحتِّمُ علينا التَّفكير في أخلاق المعلومات، والبُعدِ الأخلاقيِّ للعلاقة القائمة بين المعلومات والإنسان. فكونُ المرء أكثر علماً لا يعني أنْ يكون أكثر أخلاقاً وفضيلةً وصحَّةً. والغريب في الأمر أنَّ عصرنا الذي شهد تقدُّماً مُدهِشاً في إنتاج العقل؛ شهد كذلك أسوأ استعمالاتِ نعمةِ العقل، فعادت على البشريَّة بالحروب والإرهاب عِوَضاً عن السَّلام، والتَّطوُّرات التي حصلت في مجالِ العلوم والتُّكنولوجيا في القرن الماضي خدمت الحروب والإرهاب أكثرَ من خدمتها للسَّلام، وبلغت أمراض الطَّمع والجشع والأنانيَّة وحبُّ الاستهلاك والتَّرفِ والبذخ، أبعاداً لا تعرف حدوداً، في هذه الحالة يجب علينا التَّفكير مرَّةً أُخرى في هذا السُّؤال: إلى أيِّ مدىً يمكن للمعلومة التي يتمُّ إنتاجها بعيداً عن الأخلاق، والعلوم التي يتمُّ تطويرها مُفتَقِرةً إلى الأخلاق؛ أنْ تأتيَ بالأمل والسَّعادةِ للبشريَّة؟.

وهذا الأمر لا ينطبق على المعلومات الغربيَّة/العلمانيَّة فحسب، بل ينطبق أيضاً على المعلومات الدِّينيَّة التي ينبغي أنْ تكون الأخلاق سبب وجودِها، ورغمَ أنَّ الإمكاناتِ المادِّيَّةِ للمعلوماتِ الدِّينيَّة في عصرنا أبدت تَطوُّراً كبيراً مُقارَنة بإمكاناتها في الماضي، وارتفع عدد المُتعلِّمين والمَنشوراتِ والإمكانات التِّقنيَّة ارتفاعاً كبيراً؛ فإنَّ الموضوع المُتمَثِّلَ في مدى تحوُّلِ التَّطوُّراتِ على مستوى المَعلوماتِ إلى أخلاقٍ ومَسؤوليَّةٍ في حياة الأفراد والمُجتَمعاتِ، موضوعٌ يقبَلُ النِّقاشَ كثيراً.

فكلُّ حكمٍ دِينيٍّ له جانبٌ فقهيٌّ، وجانبٌ أخلاقيٌّ. والجانب الفقهيُّ يُنَظِّمُ عالَمَ الإنسان الخارجيِّ، والجانبُ الأخلاقيُّ يُنَظِّمُ عالَمَهُ الدَّاخليَّ. وبتعبيرِ علم الأصول، يستندُ الجانب الفقهيُّ للأحكام الفقهيَّة إلى العلَّةِ السَّببيَّة، والجانب الأخلاقيُّ إلى العلَّة الغائيَّة. فالأخلاق غايةٌ، والفقه وسيلةٌ. ولولا الوسيلة لما تحقَّقت الغاية، ولولا الغاية لما كان للوسيلة معنىً.

والتَّديُّن يعني أنْ يكون المرء خَلوقاً. فالأخلاق لا تُشكِّلُ بعضَ تَصرُّفاتِ الإنسان، بل تَحتَويها جميعاً. والإنسان يصبِحُ إنساناً بقدرِ ما هو خَلوقٌ، والمُسلِمُ يكون مُسلِماً بقدر ما هو خَلوقٌ. والحضارة العظيمة والثَّقافة العالية السَّليمَةُ ليست إلَّا أخلاقاً، والأخلاق تشمل العقلَ والعلمَ والعملَ.

أمَّا اليوم مع الأسف فلا يوجد لدينا أصولُ الأخلاق كأصول الفقه، وحاجتُنا إلى أصول الأخلاق التي من شأنها أنْ تُعيدَ بناء نظامِ القِيَمِ التي تجعل التَّصرُّفاتِ أخلاقيَّةً، والتَّرتيبَ الهَرَمِيَّ للقِيَمِ؛ أمراً غنيّاً عن البيان.

وسيتناول معهدُ الفكر الإسلاميِّ هذه المواضيع ضمنَ أولويَّاتِه في أبحاثه وبرامجه وندواته.